جون دالتون: الرائد في تطوير النظرية الذرية

يُعد جون دالتون واحدًا من أبرز العلماء في تاريخ الكيمياء والفيزياء، وهو عالم إنجليزي قدم إسهامات عظيمة غيرت جذريًا الفهم البشري لتركيب المادة. ارتبط اسم دالتون بالنظرية الذرية الحديثة التي شكلت الأساس لفهم العناصر والمركبات الكيميائية، كما قدم مساهمات هامة في دراسة الغازات والظواهر الجوية بالإضافة إلى بحثه الرائد حول عمى الألوان.

النشأة والبدايات العلمية

وُلد جون دالتون في السادس من سبتمبر عام 1766 في قرية إيجلزفيلد في منطقة كمبريا بشمال غرب إنجلترا، لعائلة متواضعة من طائفة الكويكرز البروتستانتية، التي عُرفت بتقديرها للعلم والعمل الدؤوب. نشأ دالتون في بيئة محدودة الإمكانيات الاقتصادية، مما دفعه للعمل منذ سن مبكرة لدعم عائلته. رغم ظروفه الصعبة، أبدى دالتون اهتمامًا كبيرًا بالعلوم والرياضيات، حيث تلقى تعليمه الأولي في مدرسة قريته، ثم بدأ بتعليم نفسه لاحقًا من خلال الاطلاع على الكتب العلمية المتاحة آنذاك.

في سن الثانية عشرة، بدأ دالتون بممارسة مهنة التدريس، وفي عمر الخامسة عشرة تولى مسؤولية إدارة مدرسة قريته بعد وفاة والده. كانت هذه المرحلة نقطة الانطلاق الحقيقية نحو حياته العلمية، إذ عمل على تطوير معارفه في الرياضيات والفيزياء والكيمياء بشكل مكثف.

تطور المسيرة العلمية

في عام 1793، انتقل دالتون إلى مدينة مانشستر ليشغل منصب مدرس في الأكاديمية الجديدة، وهناك بدأ في تكوين علاقات علمية واسعة مع المجتمع العلمي البريطاني. خلال تلك الفترة، بدأ بتدوين ملاحظاته التفصيلية حول الطقس والضغط الجوي، حيث قام بتسجيل أكثر من 200 ألف ملاحظة على مدار عدة سنوات، مما شكّل قاعدة علمية قوية لأبحاثه في مجال الغازات.

اهتم دالتون بشكل خاص بدراسة الغازات، وكان أول من وضع تفسيرًا علميًا يعتمد على وجود جسيمات دقيقة (ذرات) تتحكم في سلوك المواد الكيميائية. هذا الاهتمام قاده إلى تطوير نظريته الذرية التي أصبحت حجر الأساس في علم الكيمياء الحديث.

النظرية الذرية لدالتون

النظرية الذرية التي صاغها دالتون في أوائل القرن التاسع عشر مثلت ثورة علمية كبيرة. قبل دالتون، كان العلماء يمتلكون أفكارًا فلسفية مبهمة حول الذرة تعود إلى الفلاسفة الإغريق مثل ديموقريطس، لكن دالتون كان أول من قدم تصورًا علميًا دقيقًا وقابلًا للاختبار تجريبيًا.

تضمنت النظرية الذرية لدالتون عدة فرضيات رئيسية:

1. المادة تتكون من جسيمات دقيقة جدًا تُسمى الذرات.

2. ذرات العنصر الواحد متشابهة في الحجم والكتلة والخصائص الأخرى، بينما تختلف عن ذرات العناصر الأخرى.

3. لا يمكن تقسيم الذرات أو تدميرها أثناء التفاعلات الكيميائية.

4. التفاعل الكيميائي هو عملية إعادة ترتيب الذرات لتكوين مركبات جديدة.

5. المركبات الكيميائية تتكون من اتحاد ذرات عناصر مختلفة بنسب عددية ثابتة وبسيطة.

هذه الفرضيات شكلت القاعدة الأساسية لعلم الكيمياء في القرن التاسع عشر وما بعده، ولا تزال معظم مبادئها تحتفظ بصحتها حتى اليوم مع بعض التعديلات التي أضافتها الأبحاث الحديثة.

الجدول التالي يلخص أهم فرضيات دالتون الذرية:

إسهاماته في قانون الضغوط الجزئية

إلى جانب نظريته الذرية، أجرى دالتون أبحاثًا مكثفة على سلوك الغازات، وقدم قانون الضغوط الجزئية الذي يُعرف اليوم باسم “قانون دالتون”. ينص هذا القانون على أن ضغط خليط من الغازات يساوي مجموع الضغوط الجزئية لكل غاز على حدة، أي أن كل غاز في الخليط يساهم بجزء من الضغط الكلي يتناسب مع نسبته في الحجم.

يُعتبر قانون دالتون من المبادئ الأساسية في علم الغازات وله تطبيقات واسعة في مجالات عدة مثل الغوص، الهندسة الكيميائية، والطب، خاصة في فهم عملية التنفس وتوزيع الغازات في الجسم البشري.

أبحاثه في مجال عمى الألوان

من أهم جوانب سيرة دالتون العلمية، اهتمامه بدراسة عمى الألوان، وهي حالة مرضية كان يعاني منها شخصيًا. لاحظ دالتون أنه يواجه صعوبة في التمييز بين الألوان، خاصة الأحمر والأخضر، مما دفعه إلى دراسة هذه الظاهرة. في عام 1794، نشر دالتون بحثًا بعنوان “حقائق غير معتادة عن رؤية الألوان”، حيث اقترح أن عمى الألوان ينتج عن تغيّر في مكونات السائل داخل العين.

ورغم أن التفسير الذي قدمه دالتون لم يكن دقيقًا وفقًا للمعايير الطبية الحديثة، إلا أن أبحاثه حول هذه الحالة فتحت المجال لدراسات لاحقة أكثر تطورًا في علم البصريات والوراثة. ومنذ ذلك الحين أصبح مصطلح “الدالتونية” يستخدم للإشارة إلى عمى الألوان في العديد من اللغات العالمية.

منهجه العلمي وتأثيره المستمر

تميز دالتون بدقة ملاحظاته واعتماده على التجربة كأساس لفهم الظواهر الطبيعية. لم يكن عمله مجرد تنظير فلسفي، بل كان يحرص على دعم أفكاره بالأدلة العملية. في وقت كان العلم لا يزال يتطور، شكلت منهجيته في البحث والتجريب خطوة نوعية أدت إلى تطوير القوانين الأساسية في علم الكيمياء.

ساهمت أفكاره في تحويل علم الكيمياء من مجرد علم وصفي إلى علم يعتمد على القوانين الرياضية والنماذج الذرية. وفتح بذلك الطريق أمام علماء مثل أميديو أفوجادرو، ديميتري مندليف، وجوزيف بروست لتطوير مفاهيم جديدة مثل عدد أفوجادرو والجدول الدوري للعناصر.

حياته الشخصية وتواضعه العلمي

على الرغم من المكانة الكبيرة التي حظي بها دالتون في الأوساط العلمية، إلا أنه ظل طوال حياته شخصًا بسيطًا ومتواضعًا. عاش حياة هادئة مكرسة بالكامل للبحث والتعليم، ولم يسع وراء المناصب أو الثروة. عرف عنه اهتمامه الكبير بمساعدة الطلاب والشغوفين بالعلم، كما كان يفضل الانعزال والعمل بهدوء بعيدًا عن الأضواء.

توفي جون دالتون في السابع والعشرين من يوليو عام 1844 في مانشستر، وقد تم تكريمه بعد وفاته من خلال إقامة نصب تذكاري له في المدينة التي قضى فيها معظم حياته العلمية.

إرثه العلمي في الحاضر

يُعد إرث دالتون العلمي من أهم الركائز التي بُني عليها علم الكيمياء الحديث. النظرية الذرية التي أسسها لم تكن مجرد فكرة ناجحة في عصرها، بل شكلت نقطة تحول رئيسية في طريقة فهمنا للمادة وكل ما يحيط بنا. تطورت هذه النظرية لاحقًا مع اكتشاف الإلكترونات والبروتونات والنيوترونات، إلا أن المبادئ التي وضعها دالتون لا تزال تحتفظ بقيمتها الأساسية في التعليم والتطبيقات العلمية.

بالإضافة إلى ذلك، لا يزال قانون الضغوط الجزئية يستخدم بشكل يومي في المختبرات الطبية والصناعية، كما أن أبحاثه في مجال عمى الألوان ساهمت في تأسيس قاعدة علمية لفهم هذه الحالة الوراثية وتطوير أدوات تشخيصها.

وقد أطلقت العديد من الجامعات والمؤسسات العلمية على أقسامها ومختبراتها اسم “دالتون” تكريمًا لهذا العالم الذي أسس بفكره الصادق والبسيط واحدة من أعظم النظريات التي عرفها الإنسان.

خلاصة

جون دالتون لم يكن مجرد عالم كيمياء، بل كان صاحب رؤية علمية غيّرت وجه العالم. نظرته العميقة للمادة وحرصه على التفسير الرياضي للظواهر الكيميائية وضعاه في مصاف كبار العلماء الذين أسسوا لعلم حديث قائم على التجربة والقانون. ترك دالتون أثرًا لا يُمحى في الفيزياء والكيمياء وعلوم الحياة، وأصبح اسمه مرادفًا للمنهج العلمي القائم على الملاحظة الدقيقة والتحليل المنطقي.

المصادر

• Greenaway, Frank. “John Dalton and the Atomic Theory.” British Journal for the History of Science, vol. 2, no. 3, 1965.

• Brock, William H. The Norton History of Chemistry. W. W. Norton & Company, 1993.